معاذ بن جبل
" أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل "
محمد رسول الله
لما أشرقت جزيرة العرب بنور الهدى والحق ، كان الغلام اليثربي ( ) معاذ بن جبل فتى يافعاً .
وكان يمتاز من أترابه بحدة الذكاء ، وقوة العارضة ( ) ، وروعة البيان ، وعلو الهمة .
وكان إلى ذلك ، قسيماً وسيماً ( ) أكحل العين ، جعد الشعر براق الثنايا ، يملأ عين مجتليه ( ) ويملك عليه فؤاده ، أسلم الفتى معاذ بن جبل على يدي الداعية المكي مصعب بن عمير ، وفي ليلة العقبة امتدت يده الفتية فصافحت يد النبي الكريم وبايعته … فقد كان معاذ مع الرهط الاثنين والسبعين الذين قصدوا مكة ، ليسعدوا بلقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشرفوا ببيعته ، وليخطوا في سفر التاريخ أروع صفحة وأزهاها … وما إن عاد الفتى من مكة إلى المدينة حتى كون هو ونفر صغير من لداته جماعة لكسر الأوثان ، وانتزاعها من بيوت المشركين في يثرب في السر أو في العلن ، وكان من أثر حركة هؤلاء الفتيان الصغار أن أسلم رجل كبير من رجالات يثرب ، هو عمرو بن الجموح ( ) .
كان عمرو بن الجموح سيداً من سادات بني سلمة ، وشريفاً من أِشرافهم ، وكان قد اتخذ لنفسه صنماً من نفيس الخشب كما كان يصنع الأشراف ، وكان شيخ بني سلمة يعنى بصنمه هذا أشد العناية فيجلله بالحرير ، ويضخمه ( ) كل صباح بالطيب ، فقام الفتيان الصغار إلى صنمه تحت جنح الظلام وحملوه من مكانه ، وخرجوا به إلى خلف منازل بني سلمة ، وألقوه في حفرة كانت تجمع فيها الأقذار … فلما أصبح الشيخ افتقد صنمه فلم يجده ، وبحث عنه في كل مكان حتى ألفاه مكباً على وجهه في الحفرة غارقاً في الأقذار فقال : ويلكم من عدا على إلهنا في هذه الليلة ؟!
ثم أخرجه وغسله ، وطهره ، وطيبه ، وأعاده إلى مكانه ، وقال له : أي " مناة " ( ) ، والله لو أني أعلم من صنع بك هذا لأخزيته … فلما أمسى الشيخ ونام تسلل الفتية إلى صنمه وفعلوا به ما فعلوه في الليلة السابقة … فما زال يبحث عنه حتى وجده في حفرة أخرى من تلك الحفر …
فأخرجه وغسله وطهره وعطره وتوعد ( ) من عدوا عليه أشد الوعيد… فلما تكرر ذلك منهم استخرجه من حيث القوة ، وغسله … ثم جاء بسيفه فعلقه عليه وقال يخاطبه : والله إني ما أعلم من يفعل بك هذا الذي تراه … فإن كان فيك خير ـ يا مناة ـ فادفع عن نفسك .. وهذا السيف معك … فلما أمسى الشيخ ونام ، عدا الفتية على الصنم وأخذوا السيف المعلق في رقبته …
وربطوه بعنق كلب ميت وألقوهما في حفرة من تلك الحفر ، فلما أصبح الشيخ جد في طلب صنمه حتى وجده ملقى بين الأقذار مقروناً بكلب ميت منكساً على وجهه ، عند ذلك نظر إليه وقال :
تالله لو كنت إلهاً لم تكن
أنت وكلب وسط بئر في قرن ( )
ثم أسلم شيخ بني سلمة وحسن إسلامه .
ولما قدم الرسول على المدينة مهاجراً ، لزمه الفتى معاذ بن جبل ملازمة الظل لصاحبه ، فأخذ عنه القرآن ، وتلقى عليه شرائع الإسلام ، حتى غدا من أقرأ الصحابة لكتاب الله ، وأعلمهم بشرعه …
حدث يزيد بن قطيب قال : دخلت مسجد حمص فإذا أنا بفتى جعد الشعر ( ) ، قد اجتمع حوله الناس ، فإذا تكلم كأنما يخرج من فيه نور ولؤلؤ ، فقلت : من هذا ؟! فقالوا : معاذ بن جبل .
وروى أبو مسلم الخولاني ( ) قال : أتيت مسجد دمشق ؛ فإذا حلقة ( ) فيها كهول من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا شاب فيهم أكحل العين براق الثنايا ، كلما اختلفوا في شيء ردوه إلى الفتى ؛ فقلت لجليس لي : من هذا ؟! فقال : معاذ بن جبل .
ولا غرو ( ) فمعاذ ربي في مدرسة الرسول صلوات الله وسلامه عليه منذ نعومة الأظفار ( ) ، وتخرج على يديه فنهل العلم من ينابيعه الغزيرة ، وأخذ المعرفة من معينها الأصيل ، فكان خير تلميذ لخير معلم ، وحسب ( ) معاذ شهادة أن يقول عنه الرسول صلوات الله عليه : أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل وحسبه فضلاً على أمة محمد أنه كان أحد النفر الستة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، ولذا كان أصحاب الرسول إذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل نظروا إليه هيبة له وتعظيماً لعلمه ، وقد وضع الرسول الكريم وصاحباه من بعده هذه الطاقة العلمية الفريدة في خدمة الإسلام والمسلمين ، فهذا هو النبي عليه الصلاة والسلام يرى جموع قريش تدخل في دين الله أفواجاً ، بعد فتح مكة .
ويشعر بحاجة المسلمين الجدد إلى معلم كبير يعلمهم الإسلام ، ويفقههم بشرائعه ، فيعهد بخلافته على مكة لعتاب بن أسيد ، ويستبقي معه معاذ بن جبل ليعلم الناس القرآن ويفقههم في دين الله .
ولما جاءت رسل ملوك اليمن إلى رسول الله صلوات الله عليه ، تعلن إسلامها وإسلام من وراءها ، وتسأله أن يبعث معها من يعلم الناس دينهم انتدب لهذه المهمة نفراً من الدعاة الهداة من أصحابه وأمر عليهم معاذ بن جبل رضي الله عنه .
وقد خرج النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه يودع بعثة الهدى والنور هذه …
وطفق يمشى تحت راحلة معاذ … ومعاذ راكب …
وأطال الرسول الكريم مشيه معه ؛ حتى لكأنه كان يريد أن يتملى من معاذ ، ثم أوصاه وقال له :
يا معاذ إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا … ولعلك أن تمر بمسجدي وقبري …
فبكى معاذ جزعاً لفراق نبيه وحبيبه محمد صلوات الله عليه ، وبكى المسلمون .
وصدقت نبوءة الرسول الكريم فما اكتحلت عينا معاذ رضي الله عنه برؤية النبي عليه الصلاة والسلام بعد تلك الساعة … فقد فارق الرسول الكريم الحياة قبل أن يعود معاذ من اليمن .
ولا ريب في أن معاذ بكى لما عاد إلى يثرب فألفاها ( ) قد أقفرت من أنس حبيبه رسول الله .
ولما ولي الخلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ أرسل معاذاً إلى بني كلاب ليقسم فيهم أعطياتهم ، ويوّزع على فقرائهم صدقات أغنيائهم ، فقام بما عهد إليه من أمر ، وعاد إلى زوجه بحلسه ( ) الذي خرج به يلفّه على رقبته ، فقالت له امرأته : أين ما جئت به مما يأتي به الولاة من هدية لأهليهم ؟!
فقال : لقد كان معي رقيب يقظ يحصي عليَّ ( ) ، فقالت : قد كنت أميناً عند رسول الله ، وأبي بكر، ثم جاء عمر فبعث معك رقيباً يحصي عليك ؟!!
وأشاعت ذلك في نسوة عمر ، واشتكته لهن … فبلغ ذلك عمر ؛ فدعا معاذاً وقال :
أأنا بعثت معك رقيباً يحصى عليك ؟! فقال : لا يا أمير المؤمنين ، ولكنني لم أجد شيئاً أعتذر به إليها إلا ذلك … فضحك عمر رضوان الله عليه ، وأعطاه شيئاً وقال له : أرضها به …
وفي أيا الفاروق أرسل إليه واليه على الشام يزيد ابن أبي سفيان يقول : يا أمير المؤمنين ، إن أهل الشام قد كثروا وملؤوا المدائن ، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم بالدين فأعني يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم ؛ فدعا عمر النفر الخمسة الذين جمعوا القرآن في زمن النبي عليه الصلاة والسلام : وهم معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبو أيوب الأنصاري ( ) وأبي بن كعب وأبو الدرداء ( ) وقال لهم : إن إخوانكم من أهل الشام قد استعانوني بمن يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين فأعينوني ـ رحمكم الله ـ بثلاثة منكم ؛ فإن أحببتم فاقترعوا وإلا انتدبت ثلاثة منكم .
فقالوا : ولم نقترع ؟ فأبو أيوب شيخ كبير ، وأبي رجل مريض ، وبقينا نحن الثلاثة ، فقال عمر :
ابدؤوا بحمص فإذا رضيتم حال أهلها ؛ فخلّفوا أحدكم فيها وليخرج واحد منكم إلى دمشق ، والآخر ، إلى فلسطين ، فقام أصحاب رسول الله الثلاثة بما أمرهم به الفاروق في حمص …
ثم تركوا فيها عبادة بن الصامت ، وذهب أبو الدرداء إلى دمشق ومضى معاذ بن جبل إلى فلسطين .
وهناك أصيب معاذ بالوباء ، فلما حضرته الوفاة استقبل القبلة وجعل يردد هذا النشيد :
مرحباً بالموت مرحباً … زائر جاء بعد غياب …وحبيب وفد على شوق … ثم جعل ينظر إلى السماء ويقول : اللهم إنك كنت تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لغرس الأشجار ، وجري الأنهار … ولكن لظمأ الهواجر ، ومكابدة الساعات ، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر … اللهم فتقبل نفسي بخير ما تتقبل به نفساً مؤمنة ثم فاضت روحه الطاهرة بعيداً عن الأهل والعشير داعياً إلى الله ، مهاجراً في س
" أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل "
محمد رسول الله
لما أشرقت جزيرة العرب بنور الهدى والحق ، كان الغلام اليثربي ( ) معاذ بن جبل فتى يافعاً .
وكان يمتاز من أترابه بحدة الذكاء ، وقوة العارضة ( ) ، وروعة البيان ، وعلو الهمة .
وكان إلى ذلك ، قسيماً وسيماً ( ) أكحل العين ، جعد الشعر براق الثنايا ، يملأ عين مجتليه ( ) ويملك عليه فؤاده ، أسلم الفتى معاذ بن جبل على يدي الداعية المكي مصعب بن عمير ، وفي ليلة العقبة امتدت يده الفتية فصافحت يد النبي الكريم وبايعته … فقد كان معاذ مع الرهط الاثنين والسبعين الذين قصدوا مكة ، ليسعدوا بلقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشرفوا ببيعته ، وليخطوا في سفر التاريخ أروع صفحة وأزهاها … وما إن عاد الفتى من مكة إلى المدينة حتى كون هو ونفر صغير من لداته جماعة لكسر الأوثان ، وانتزاعها من بيوت المشركين في يثرب في السر أو في العلن ، وكان من أثر حركة هؤلاء الفتيان الصغار أن أسلم رجل كبير من رجالات يثرب ، هو عمرو بن الجموح ( ) .
كان عمرو بن الجموح سيداً من سادات بني سلمة ، وشريفاً من أِشرافهم ، وكان قد اتخذ لنفسه صنماً من نفيس الخشب كما كان يصنع الأشراف ، وكان شيخ بني سلمة يعنى بصنمه هذا أشد العناية فيجلله بالحرير ، ويضخمه ( ) كل صباح بالطيب ، فقام الفتيان الصغار إلى صنمه تحت جنح الظلام وحملوه من مكانه ، وخرجوا به إلى خلف منازل بني سلمة ، وألقوه في حفرة كانت تجمع فيها الأقذار … فلما أصبح الشيخ افتقد صنمه فلم يجده ، وبحث عنه في كل مكان حتى ألفاه مكباً على وجهه في الحفرة غارقاً في الأقذار فقال : ويلكم من عدا على إلهنا في هذه الليلة ؟!
ثم أخرجه وغسله ، وطهره ، وطيبه ، وأعاده إلى مكانه ، وقال له : أي " مناة " ( ) ، والله لو أني أعلم من صنع بك هذا لأخزيته … فلما أمسى الشيخ ونام تسلل الفتية إلى صنمه وفعلوا به ما فعلوه في الليلة السابقة … فما زال يبحث عنه حتى وجده في حفرة أخرى من تلك الحفر …
فأخرجه وغسله وطهره وعطره وتوعد ( ) من عدوا عليه أشد الوعيد… فلما تكرر ذلك منهم استخرجه من حيث القوة ، وغسله … ثم جاء بسيفه فعلقه عليه وقال يخاطبه : والله إني ما أعلم من يفعل بك هذا الذي تراه … فإن كان فيك خير ـ يا مناة ـ فادفع عن نفسك .. وهذا السيف معك … فلما أمسى الشيخ ونام ، عدا الفتية على الصنم وأخذوا السيف المعلق في رقبته …
وربطوه بعنق كلب ميت وألقوهما في حفرة من تلك الحفر ، فلما أصبح الشيخ جد في طلب صنمه حتى وجده ملقى بين الأقذار مقروناً بكلب ميت منكساً على وجهه ، عند ذلك نظر إليه وقال :
تالله لو كنت إلهاً لم تكن
أنت وكلب وسط بئر في قرن ( )
ثم أسلم شيخ بني سلمة وحسن إسلامه .
ولما قدم الرسول على المدينة مهاجراً ، لزمه الفتى معاذ بن جبل ملازمة الظل لصاحبه ، فأخذ عنه القرآن ، وتلقى عليه شرائع الإسلام ، حتى غدا من أقرأ الصحابة لكتاب الله ، وأعلمهم بشرعه …
حدث يزيد بن قطيب قال : دخلت مسجد حمص فإذا أنا بفتى جعد الشعر ( ) ، قد اجتمع حوله الناس ، فإذا تكلم كأنما يخرج من فيه نور ولؤلؤ ، فقلت : من هذا ؟! فقالوا : معاذ بن جبل .
وروى أبو مسلم الخولاني ( ) قال : أتيت مسجد دمشق ؛ فإذا حلقة ( ) فيها كهول من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا شاب فيهم أكحل العين براق الثنايا ، كلما اختلفوا في شيء ردوه إلى الفتى ؛ فقلت لجليس لي : من هذا ؟! فقال : معاذ بن جبل .
ولا غرو ( ) فمعاذ ربي في مدرسة الرسول صلوات الله وسلامه عليه منذ نعومة الأظفار ( ) ، وتخرج على يديه فنهل العلم من ينابيعه الغزيرة ، وأخذ المعرفة من معينها الأصيل ، فكان خير تلميذ لخير معلم ، وحسب ( ) معاذ شهادة أن يقول عنه الرسول صلوات الله عليه : أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل وحسبه فضلاً على أمة محمد أنه كان أحد النفر الستة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، ولذا كان أصحاب الرسول إذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل نظروا إليه هيبة له وتعظيماً لعلمه ، وقد وضع الرسول الكريم وصاحباه من بعده هذه الطاقة العلمية الفريدة في خدمة الإسلام والمسلمين ، فهذا هو النبي عليه الصلاة والسلام يرى جموع قريش تدخل في دين الله أفواجاً ، بعد فتح مكة .
ويشعر بحاجة المسلمين الجدد إلى معلم كبير يعلمهم الإسلام ، ويفقههم بشرائعه ، فيعهد بخلافته على مكة لعتاب بن أسيد ، ويستبقي معه معاذ بن جبل ليعلم الناس القرآن ويفقههم في دين الله .
ولما جاءت رسل ملوك اليمن إلى رسول الله صلوات الله عليه ، تعلن إسلامها وإسلام من وراءها ، وتسأله أن يبعث معها من يعلم الناس دينهم انتدب لهذه المهمة نفراً من الدعاة الهداة من أصحابه وأمر عليهم معاذ بن جبل رضي الله عنه .
وقد خرج النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه يودع بعثة الهدى والنور هذه …
وطفق يمشى تحت راحلة معاذ … ومعاذ راكب …
وأطال الرسول الكريم مشيه معه ؛ حتى لكأنه كان يريد أن يتملى من معاذ ، ثم أوصاه وقال له :
يا معاذ إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا … ولعلك أن تمر بمسجدي وقبري …
فبكى معاذ جزعاً لفراق نبيه وحبيبه محمد صلوات الله عليه ، وبكى المسلمون .
وصدقت نبوءة الرسول الكريم فما اكتحلت عينا معاذ رضي الله عنه برؤية النبي عليه الصلاة والسلام بعد تلك الساعة … فقد فارق الرسول الكريم الحياة قبل أن يعود معاذ من اليمن .
ولا ريب في أن معاذ بكى لما عاد إلى يثرب فألفاها ( ) قد أقفرت من أنس حبيبه رسول الله .
ولما ولي الخلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ أرسل معاذاً إلى بني كلاب ليقسم فيهم أعطياتهم ، ويوّزع على فقرائهم صدقات أغنيائهم ، فقام بما عهد إليه من أمر ، وعاد إلى زوجه بحلسه ( ) الذي خرج به يلفّه على رقبته ، فقالت له امرأته : أين ما جئت به مما يأتي به الولاة من هدية لأهليهم ؟!
فقال : لقد كان معي رقيب يقظ يحصي عليَّ ( ) ، فقالت : قد كنت أميناً عند رسول الله ، وأبي بكر، ثم جاء عمر فبعث معك رقيباً يحصي عليك ؟!!
وأشاعت ذلك في نسوة عمر ، واشتكته لهن … فبلغ ذلك عمر ؛ فدعا معاذاً وقال :
أأنا بعثت معك رقيباً يحصى عليك ؟! فقال : لا يا أمير المؤمنين ، ولكنني لم أجد شيئاً أعتذر به إليها إلا ذلك … فضحك عمر رضوان الله عليه ، وأعطاه شيئاً وقال له : أرضها به …
وفي أيا الفاروق أرسل إليه واليه على الشام يزيد ابن أبي سفيان يقول : يا أمير المؤمنين ، إن أهل الشام قد كثروا وملؤوا المدائن ، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم بالدين فأعني يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم ؛ فدعا عمر النفر الخمسة الذين جمعوا القرآن في زمن النبي عليه الصلاة والسلام : وهم معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبو أيوب الأنصاري ( ) وأبي بن كعب وأبو الدرداء ( ) وقال لهم : إن إخوانكم من أهل الشام قد استعانوني بمن يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين فأعينوني ـ رحمكم الله ـ بثلاثة منكم ؛ فإن أحببتم فاقترعوا وإلا انتدبت ثلاثة منكم .
فقالوا : ولم نقترع ؟ فأبو أيوب شيخ كبير ، وأبي رجل مريض ، وبقينا نحن الثلاثة ، فقال عمر :
ابدؤوا بحمص فإذا رضيتم حال أهلها ؛ فخلّفوا أحدكم فيها وليخرج واحد منكم إلى دمشق ، والآخر ، إلى فلسطين ، فقام أصحاب رسول الله الثلاثة بما أمرهم به الفاروق في حمص …
ثم تركوا فيها عبادة بن الصامت ، وذهب أبو الدرداء إلى دمشق ومضى معاذ بن جبل إلى فلسطين .
وهناك أصيب معاذ بالوباء ، فلما حضرته الوفاة استقبل القبلة وجعل يردد هذا النشيد :
مرحباً بالموت مرحباً … زائر جاء بعد غياب …وحبيب وفد على شوق … ثم جعل ينظر إلى السماء ويقول : اللهم إنك كنت تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لغرس الأشجار ، وجري الأنهار … ولكن لظمأ الهواجر ، ومكابدة الساعات ، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر … اللهم فتقبل نفسي بخير ما تتقبل به نفساً مؤمنة ثم فاضت روحه الطاهرة بعيداً عن الأهل والعشير داعياً إلى الله ، مهاجراً في س