أسيد بن الحضير
قدم الفتى المكي مصعب بن عمير إلى يثرب ( ) ، في أول بعثة تبشيرية عرفها تاريخ الإسلام .
فنزل على أسعد بن زرارة أحد أشراف الخزرج ( ) ، واتخذ من داره مقاماً لنفسه ، ومنطلقاً لبث دعوته إلى الله ، والتبشير بنبيه محمد رسول الله ، وأخذ أبناء يثرب يقبلون على مجالس الداعية الشاب مصعب بن عمير إقبالاً كبيراً .
وكان يغريهم ( ) به عذوبة حديثه ، ووضوح حجته ، ورقة شمائله ( ) ، ووضاءة الإيمان التي تشرق من وجهه القسيم الوسيم ( ) .
وكان يجذبهم إليه شيء آخر فوق ذلك كله ، هو هذا القرآن الذي كان يتلو عليهم بين الفينة والفينة ( ) بعضاً من آياته البينات ، بصوته الشجي الرخيم ، ونبراته الحلوة الآسرة ، فيستلين به القلوب القاسية ، ويستدر الدموع العاصية ، فلا ينفض ( ) المجلس من مجالسه إلا عن أناس أسلموا وانضموا إلى كتائب الإيمان .
وفي ذات يوم ، خرج أسعد بن زرارة بضيفه الداعية مصعب بن عمير ، ليلقى جماعة من بني عبد الأشهل ، ويعرض عليهم الإسلام ، فدخلا بستاناً من بساتين بني عبد الأشهل ، وجلسا عند بئرها العذبة في ظلال النخيل .
فاجتمع على مصعب جماعة قد أسلموا وآخرون يريدون أن يسمعوا ، فانطلق يدعو ويبشر الناس إليه منصتون ، وبروعة حديثه مأخوذون .
فجاء من أخبر أسيد بن الحضير وسعد بن معاذ ـ وكانا سيدي الأوس ( ) ـ بأن الداعية المكي قد نزل قريباً من ديارهما ، وأن الذي جرأه على ذلك أسعد بن الزرارة .
فقال سعد بن معاذ لأسيد بن الحضير : لا أبا لك يا أسيد ( ) ، انطلق إلى هذا الفتى المكي الذي جاء إلى بيوتنا ليغري ( ) ضعفاءنا ، ويسفه آلهتنا ، وازجره ( ) ، وحذره من أن يطأ ديارنا بعد اليوم .
ثم أردف يقول : ولولا أنه في ضيافة ابن خالتي أسعد بن زرارة ، وأنه يمشي في حمايته لكفيتك ذلك .
أخذ أسيد حربته ، ومضى نحو البستان ، فلما رآه أسعد بن زرارة مقبلاً قال لمصعب :
ويحك يا مصعب ، هذا سيد قومه ، وأرجحهم عقلاً ، وأكملهم كمالاً : أسيد بن الحضير.
فإن يسلم تبعه في إسلامه خلق كثير ، فاصدق الله فيه ، وأحسن التأتي له ( ) .
وقف أسيد بن الحضير على الجمع ، والتفت إلى مصعب وصاحبه وقال : ما جاء بكما إلى ديارنا ، وأغراكما بضعفاءنا ؟! اعزلا هذا الحي ( ) إن كانت لكما بنفسيكما حاجة ( ) .
فالتفت مصعب إلى أسيد بوجهه المشرق بنور الإيمان ، وخاطبه بلهجته الصادقة الآسرة وقال له :
يا سيد قومه ، هل لك في خير من ذلك ؟
قال : وما هو ؟
قال : تجلس إلينا وتسمع منا ، فإن رضيت ما قلناه قبلته ، وإن لم ترضه تحولنا عنكم ولم نعد إليكم .
فقال أسيد : لقد أنصفت ، وركز رمحه في الأرض وجلس .
فأقبل عليه مصعب يذكر له حقيقة الإسلام ، وقرأ عليه شيئاً من آيات القرآن ؛ فانبسطت أساريره وأشرق وجهه وقال : ما أحسن هذا الذي تقول ، وما أجل ذلك الذي تتلو !!!
كيف تصنعون إذا أردتم الدخول في الإسلام ؟ !
فقال له مصعب : تغتسل وتطهر ثيابك ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وتصلي ركعتين .
فقام إلى البئر فتطهر بمائها ، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وصلى ركعتين .
فانضم في ذلك اليوم إلى كتائب الإسلام فارس من فرسان العرب المرموقين ( ) ،وسيد من سادات الأوس المعدودين .
كان يلقبه قومه بالكامل ، لرجاحة عقله ، ونبالة أصله ، ولأنه ملك السيف والقلم ، إذ كان بالإضافة إلى فروسيته ودقة رميه ، قارئاً كاتباً في مجتمع ندر في من يقرأ ويكتب .
وقد كان إسلامه سبباً في إسلام سعد بن معاذ ، وكان إسلامهما معاً سبباً في أن تسلم جموع غفيرة ( ) من الأوس .
وأن تصبح المدينة بعد ذلك مهاجراً ( ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وموئلاً ( ) وقاعدة لدولة الإسلام العظمى .
أولع ( ) أسيد بن الحضير بالقرآن ـ منذ سمعه ن مصعب بن عمير ـ ولع المحب بحبيبه ، وأقبل عليه إقبال الظامئ على المورد العذب في اليوم القائظ ، وجعله شغله الشاغل .
فكان لا يرى إلا مجاهداً غازياً في سبيل الله أو عاكفاً يتلو كتاب الله .
وكان رخيم الصوت ، مبين النطق ، مشرق الأداء ، تطيب له قراءة القرآن أكثر ما تطيب إذا سكن الليل ، ونامت العيون ، وصفت النفوس .
وكان الصحابة الكرام يتحينون ( ) أوقات قراءته ، وتساقون إلى سماع تلاوته .
فيا سعد من يتاح له أن يسمع القرآن منه رطباً طرياً كما أنزل على محمد .
وقد استعذب أهل السماء تلاوته كما استعذبها أهل الأرض .
ففي جوف ليلة من الليالي كان أسيد بن الحضير جالساً في مربده ( ) ، وابنه يحيى نائم إلى جانبه ، وفرسه التي أعدها للجهاد في سبيل الله مرتبطة غير بعيد عنه .
وكان الليل وادعاً ساجياً ( ) ، وأديم السماء رائقاً صافياً ، وعيون النجوم ترمق الأرض الهاجعة بحنان وعطف ، فتاقت ( ) نفس أسيد بن الحضير لأن يعطر هذه الأجواء الندية بطيوب القرآن ، فانطلق يتلو بصوته الرخيم الحنون : آلم . ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون ( ) .
فإذا به يسمع فرسه وقد جالت ( ) جولة كادت تقطع بسببها رباطها ، فسكت ؛ فسكنت الفرس وقرّت .
فعاد يقرأ : أولئك على هدىً من ربهم وأولئك هم المفلحون ( ) .
فجالت الفرس جولة أشد من تلك وأقوى .
فسكت … فسكنت …
وكرر ذلك مراراً ، فكان إذا قرأ أجفلت ( ) الفرس وهاجت ، وإذا سكت سكنت وقرّت .
فخاف على ابنه يحيى أن تطأه ، فمضى إليه ليوقظه ، وهنا حانت منه التفاته إلى السماء ، فرأى غمامة كالمظلمة لم تر العين أروع ولا أبهى منها قط وقد علّق بها أمثال المصابيح ، فملأت الآفاق ضياء وسناء ، وهي تصعد إلى الأعلى حتى غابت عن ناظريه .
فلما أصبح مضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقص عليه خبر ما رأى ، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام :
" تلك الملائكة كانت تستمع لك يا أسيد … ولو أنك مضيت في قراءتك لرآها الناس ولم تستتر منهم ( ) " .
وكما أولع أسيد بن الحضير بكتاب الله فقد أولع برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان ـ كما حدّث عن نفسه ـ أصفى ما يكون صفاء وأشد ما يكون شفافية وإيماناً حين يقرأ القرآن أو يسمعه .
وحين ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب أو يحدّث .
وكان كثيراً ما يتمنى أن يمس جسده جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يكب عليه لاثماً مقبلاً .
وقد أتيح ( ) له ذلك ذات مرة .
ففي ذات يوم كان أسيد يطرف القوم بملحه ( ) ، فغمزه ( ) رسول الله صلوات الله عليه في خاصرته بيده ، كأنه يستحسن ما يقول .
فقال أسيد : أوجعتني يا رسول الله .
فقال عليه الصلاة والسلام : اقتص منًي يا أسيد .
فقال أسيد : إن عليك قميصاً ولم يكن عليً قميص حين غمزتني .
فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه عن جسده ، فاحتضنه أسيد وجعل يقبّل ما بين إبطة وخاصرته وهو يقول : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله ، إنها لبغية كنت أتمناها منذ عرفتك ، وقد بلغتها الآن .
وقد كان الرسول صلوات الله عليه يبادل أسيداً حباً بحبّ ، ويحفظ له سابقته في الإسلام وذوده ( ) عنه يوم أحد حتى إنه طعن سبع طعنات مميتات في ذلك اليوم .
وكان يعرف له قدره ومنزلته في قومه ، فإذا شفع في أحد منهم شفعه فيه .
حدث أسيد قال : جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له أهل بيت من الأنصار فيهم محاويج ( ) . وجل أهل ذلك البيت نسوة ، فقال عليه الصلاة والسلام :
لقد جئتنا يا أسيد بعد أن أنفقنا ما بأيدينا ، فإذا سمعت بشيء قد جاءنا فاذكر لنا أهل ذلك البيت فجاءه بعد ذلك مال من خيبر فقسمه بين المسلمين فأعطى الأنصار وأجزل ( ) ، وأعطى أهل ذلك البيت وأجزل . فقلت له : جزاك الله عنهم ـ يا نبي الله ـ خيراً .
فقال : وأنتم معشر الأنصار جزاكم الله أطيب الجزاء ، فإنكم ـ ما علمت ( ) ـ أعفة صبر ،
وأنكم ستلقون أثرة بعدي ( ) ، فاصبروا حتى تلقوني ، وموعدكم الحوض ( ) .
قال أسيد : فلما آلت الخلافة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم بين المسلمين مالا ومتاعاً ، فبعث إليً بحلة فاستصغرتها …
فبينما أنا في المسجد إذ مر بي شاب من قريش عليه حلة سابغة ( ) من تلك الحلل التي أرسلها إلي
عمر ، وهو يجرّها على الأرض جراً ؛ فذكرت لمن معي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إنكم ستلقون أثرة من بعدي " ، وقلت : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فانطلق رجل إلى عمر وأخبره بما قلت ، فجاءني مسرعاً وأنا أصلى فقال : صل يا أسيد .
فلما قضيت صلاتي أقبل عليّ وقال : ماذا قلت ؟
فأخبرته بما رأيت وبما قلت .
فقال : عفا الله عنك ، تلك حلّة بعثت بها إلى فلان ، وهو أنصاريّ عقبيّ بدريّ أحديّ ( ) ، فشراها منه هذا الفتى القرشي ولبسها .
أفتظن أن هذا الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في زماني ؟!!
فقال أسيد : والله يا أمير المؤمنين لقد ظننت أن ذلك لا يكون في زمانك .
لم يعش أسيد بن الحضير بعد ذلك طويلاً ، فقد اختاره الله إلى جواره في عهد عمر رضي الله عنه وعن عمر .
فوجد أن عليه ديناً مقداره أربعة آلاف درهم ، فهمّ ورثته ببيع أرض له لوفاء ديونه .
فلما عرف عمر ذلك قال :
لا أترك بني أخي أسيد عالة على الناس …
ثم كلّم الغرماء ( ) فرضوا بأن يشتروا منه ثمر الأرض أربع سنين ، كل سنة بألف ( ) .
قدم الفتى المكي مصعب بن عمير إلى يثرب ( ) ، في أول بعثة تبشيرية عرفها تاريخ الإسلام .
فنزل على أسعد بن زرارة أحد أشراف الخزرج ( ) ، واتخذ من داره مقاماً لنفسه ، ومنطلقاً لبث دعوته إلى الله ، والتبشير بنبيه محمد رسول الله ، وأخذ أبناء يثرب يقبلون على مجالس الداعية الشاب مصعب بن عمير إقبالاً كبيراً .
وكان يغريهم ( ) به عذوبة حديثه ، ووضوح حجته ، ورقة شمائله ( ) ، ووضاءة الإيمان التي تشرق من وجهه القسيم الوسيم ( ) .
وكان يجذبهم إليه شيء آخر فوق ذلك كله ، هو هذا القرآن الذي كان يتلو عليهم بين الفينة والفينة ( ) بعضاً من آياته البينات ، بصوته الشجي الرخيم ، ونبراته الحلوة الآسرة ، فيستلين به القلوب القاسية ، ويستدر الدموع العاصية ، فلا ينفض ( ) المجلس من مجالسه إلا عن أناس أسلموا وانضموا إلى كتائب الإيمان .
وفي ذات يوم ، خرج أسعد بن زرارة بضيفه الداعية مصعب بن عمير ، ليلقى جماعة من بني عبد الأشهل ، ويعرض عليهم الإسلام ، فدخلا بستاناً من بساتين بني عبد الأشهل ، وجلسا عند بئرها العذبة في ظلال النخيل .
فاجتمع على مصعب جماعة قد أسلموا وآخرون يريدون أن يسمعوا ، فانطلق يدعو ويبشر الناس إليه منصتون ، وبروعة حديثه مأخوذون .
فجاء من أخبر أسيد بن الحضير وسعد بن معاذ ـ وكانا سيدي الأوس ( ) ـ بأن الداعية المكي قد نزل قريباً من ديارهما ، وأن الذي جرأه على ذلك أسعد بن الزرارة .
فقال سعد بن معاذ لأسيد بن الحضير : لا أبا لك يا أسيد ( ) ، انطلق إلى هذا الفتى المكي الذي جاء إلى بيوتنا ليغري ( ) ضعفاءنا ، ويسفه آلهتنا ، وازجره ( ) ، وحذره من أن يطأ ديارنا بعد اليوم .
ثم أردف يقول : ولولا أنه في ضيافة ابن خالتي أسعد بن زرارة ، وأنه يمشي في حمايته لكفيتك ذلك .
أخذ أسيد حربته ، ومضى نحو البستان ، فلما رآه أسعد بن زرارة مقبلاً قال لمصعب :
ويحك يا مصعب ، هذا سيد قومه ، وأرجحهم عقلاً ، وأكملهم كمالاً : أسيد بن الحضير.
فإن يسلم تبعه في إسلامه خلق كثير ، فاصدق الله فيه ، وأحسن التأتي له ( ) .
وقف أسيد بن الحضير على الجمع ، والتفت إلى مصعب وصاحبه وقال : ما جاء بكما إلى ديارنا ، وأغراكما بضعفاءنا ؟! اعزلا هذا الحي ( ) إن كانت لكما بنفسيكما حاجة ( ) .
فالتفت مصعب إلى أسيد بوجهه المشرق بنور الإيمان ، وخاطبه بلهجته الصادقة الآسرة وقال له :
يا سيد قومه ، هل لك في خير من ذلك ؟
قال : وما هو ؟
قال : تجلس إلينا وتسمع منا ، فإن رضيت ما قلناه قبلته ، وإن لم ترضه تحولنا عنكم ولم نعد إليكم .
فقال أسيد : لقد أنصفت ، وركز رمحه في الأرض وجلس .
فأقبل عليه مصعب يذكر له حقيقة الإسلام ، وقرأ عليه شيئاً من آيات القرآن ؛ فانبسطت أساريره وأشرق وجهه وقال : ما أحسن هذا الذي تقول ، وما أجل ذلك الذي تتلو !!!
كيف تصنعون إذا أردتم الدخول في الإسلام ؟ !
فقال له مصعب : تغتسل وتطهر ثيابك ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وتصلي ركعتين .
فقام إلى البئر فتطهر بمائها ، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وصلى ركعتين .
فانضم في ذلك اليوم إلى كتائب الإسلام فارس من فرسان العرب المرموقين ( ) ،وسيد من سادات الأوس المعدودين .
كان يلقبه قومه بالكامل ، لرجاحة عقله ، ونبالة أصله ، ولأنه ملك السيف والقلم ، إذ كان بالإضافة إلى فروسيته ودقة رميه ، قارئاً كاتباً في مجتمع ندر في من يقرأ ويكتب .
وقد كان إسلامه سبباً في إسلام سعد بن معاذ ، وكان إسلامهما معاً سبباً في أن تسلم جموع غفيرة ( ) من الأوس .
وأن تصبح المدينة بعد ذلك مهاجراً ( ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وموئلاً ( ) وقاعدة لدولة الإسلام العظمى .
أولع ( ) أسيد بن الحضير بالقرآن ـ منذ سمعه ن مصعب بن عمير ـ ولع المحب بحبيبه ، وأقبل عليه إقبال الظامئ على المورد العذب في اليوم القائظ ، وجعله شغله الشاغل .
فكان لا يرى إلا مجاهداً غازياً في سبيل الله أو عاكفاً يتلو كتاب الله .
وكان رخيم الصوت ، مبين النطق ، مشرق الأداء ، تطيب له قراءة القرآن أكثر ما تطيب إذا سكن الليل ، ونامت العيون ، وصفت النفوس .
وكان الصحابة الكرام يتحينون ( ) أوقات قراءته ، وتساقون إلى سماع تلاوته .
فيا سعد من يتاح له أن يسمع القرآن منه رطباً طرياً كما أنزل على محمد .
وقد استعذب أهل السماء تلاوته كما استعذبها أهل الأرض .
ففي جوف ليلة من الليالي كان أسيد بن الحضير جالساً في مربده ( ) ، وابنه يحيى نائم إلى جانبه ، وفرسه التي أعدها للجهاد في سبيل الله مرتبطة غير بعيد عنه .
وكان الليل وادعاً ساجياً ( ) ، وأديم السماء رائقاً صافياً ، وعيون النجوم ترمق الأرض الهاجعة بحنان وعطف ، فتاقت ( ) نفس أسيد بن الحضير لأن يعطر هذه الأجواء الندية بطيوب القرآن ، فانطلق يتلو بصوته الرخيم الحنون : آلم . ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون ( ) .
فإذا به يسمع فرسه وقد جالت ( ) جولة كادت تقطع بسببها رباطها ، فسكت ؛ فسكنت الفرس وقرّت .
فعاد يقرأ : أولئك على هدىً من ربهم وأولئك هم المفلحون ( ) .
فجالت الفرس جولة أشد من تلك وأقوى .
فسكت … فسكنت …
وكرر ذلك مراراً ، فكان إذا قرأ أجفلت ( ) الفرس وهاجت ، وإذا سكت سكنت وقرّت .
فخاف على ابنه يحيى أن تطأه ، فمضى إليه ليوقظه ، وهنا حانت منه التفاته إلى السماء ، فرأى غمامة كالمظلمة لم تر العين أروع ولا أبهى منها قط وقد علّق بها أمثال المصابيح ، فملأت الآفاق ضياء وسناء ، وهي تصعد إلى الأعلى حتى غابت عن ناظريه .
فلما أصبح مضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقص عليه خبر ما رأى ، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام :
" تلك الملائكة كانت تستمع لك يا أسيد … ولو أنك مضيت في قراءتك لرآها الناس ولم تستتر منهم ( ) " .
وكما أولع أسيد بن الحضير بكتاب الله فقد أولع برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان ـ كما حدّث عن نفسه ـ أصفى ما يكون صفاء وأشد ما يكون شفافية وإيماناً حين يقرأ القرآن أو يسمعه .
وحين ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب أو يحدّث .
وكان كثيراً ما يتمنى أن يمس جسده جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يكب عليه لاثماً مقبلاً .
وقد أتيح ( ) له ذلك ذات مرة .
ففي ذات يوم كان أسيد يطرف القوم بملحه ( ) ، فغمزه ( ) رسول الله صلوات الله عليه في خاصرته بيده ، كأنه يستحسن ما يقول .
فقال أسيد : أوجعتني يا رسول الله .
فقال عليه الصلاة والسلام : اقتص منًي يا أسيد .
فقال أسيد : إن عليك قميصاً ولم يكن عليً قميص حين غمزتني .
فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه عن جسده ، فاحتضنه أسيد وجعل يقبّل ما بين إبطة وخاصرته وهو يقول : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله ، إنها لبغية كنت أتمناها منذ عرفتك ، وقد بلغتها الآن .
وقد كان الرسول صلوات الله عليه يبادل أسيداً حباً بحبّ ، ويحفظ له سابقته في الإسلام وذوده ( ) عنه يوم أحد حتى إنه طعن سبع طعنات مميتات في ذلك اليوم .
وكان يعرف له قدره ومنزلته في قومه ، فإذا شفع في أحد منهم شفعه فيه .
حدث أسيد قال : جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له أهل بيت من الأنصار فيهم محاويج ( ) . وجل أهل ذلك البيت نسوة ، فقال عليه الصلاة والسلام :
لقد جئتنا يا أسيد بعد أن أنفقنا ما بأيدينا ، فإذا سمعت بشيء قد جاءنا فاذكر لنا أهل ذلك البيت فجاءه بعد ذلك مال من خيبر فقسمه بين المسلمين فأعطى الأنصار وأجزل ( ) ، وأعطى أهل ذلك البيت وأجزل . فقلت له : جزاك الله عنهم ـ يا نبي الله ـ خيراً .
فقال : وأنتم معشر الأنصار جزاكم الله أطيب الجزاء ، فإنكم ـ ما علمت ( ) ـ أعفة صبر ،
وأنكم ستلقون أثرة بعدي ( ) ، فاصبروا حتى تلقوني ، وموعدكم الحوض ( ) .
قال أسيد : فلما آلت الخلافة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم بين المسلمين مالا ومتاعاً ، فبعث إليً بحلة فاستصغرتها …
فبينما أنا في المسجد إذ مر بي شاب من قريش عليه حلة سابغة ( ) من تلك الحلل التي أرسلها إلي
عمر ، وهو يجرّها على الأرض جراً ؛ فذكرت لمن معي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إنكم ستلقون أثرة من بعدي " ، وقلت : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فانطلق رجل إلى عمر وأخبره بما قلت ، فجاءني مسرعاً وأنا أصلى فقال : صل يا أسيد .
فلما قضيت صلاتي أقبل عليّ وقال : ماذا قلت ؟
فأخبرته بما رأيت وبما قلت .
فقال : عفا الله عنك ، تلك حلّة بعثت بها إلى فلان ، وهو أنصاريّ عقبيّ بدريّ أحديّ ( ) ، فشراها منه هذا الفتى القرشي ولبسها .
أفتظن أن هذا الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في زماني ؟!!
فقال أسيد : والله يا أمير المؤمنين لقد ظننت أن ذلك لا يكون في زمانك .
لم يعش أسيد بن الحضير بعد ذلك طويلاً ، فقد اختاره الله إلى جواره في عهد عمر رضي الله عنه وعن عمر .
فوجد أن عليه ديناً مقداره أربعة آلاف درهم ، فهمّ ورثته ببيع أرض له لوفاء ديونه .
فلما عرف عمر ذلك قال :
لا أترك بني أخي أسيد عالة على الناس …
ثم كلّم الغرماء ( ) فرضوا بأن يشتروا منه ثمر الأرض أربع سنين ، كل سنة بألف ( ) .